الاختلاف أن ينهج كل شخص طريقاً مغايراً للآخر في حاله
أو في قوله.
فقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون خلق الناس بعقول
ومدارك متباينة، إلى جانب اختلاف الألسنة والألوان والتصورات والأفكار، وكل تلك
الأمور تفضي إلى تعدد الآراء والأحكام. إن إعمار الكون لا يتحقق لو أن البشر سواسية
في كل شيء، ولو التزم الناس بأدب الاختلاف لكان له بعض الإيجابيات مثل:
1- تطلُّب الاحتمالات التي يمكن أن يكون الدليل قد رمى
إليها.
2- فتح مجالات التفكير للوصول إلى سائر
الافتراضات.
3- تعدد الحلول أمام صاحب كل واقعة ليهتدي إلى الحل
المناسب.
أولاً: اختلاف الصحابة في عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعَ الجميع، فلم
يكن في عهده ما يؤدي إلى الاختلاف، أما البعيدون عن المدينة فكان يقع بينهم
الاختلاف؛ لاختلافهم فيما يعرفونه من تفسير كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه
رضوان الله عليهم أدباً هاماً من آداب الاختلاف في قراءة القرآن خاصة، فيقول:
"اقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا". أخرجه
الشيخان..
فيندبهم عليه الصلاة والسلام إلى القيام عن القرآن
العظيم إذا اختلفوا في بعض أحرف القراءة أو في المعاني المرادة من الآيات الكريمة
حتى تهدأ النفوس والقلوب وتنتفي دواعي الحدة في الجدال المؤدية إلى المنازعة
والشقاق، أما إذا ائتلفت القلوب وسيطرت الرغبة المخلصة في الفهم فعليهم أن يواصلوا
القراءة والتدبر والفهم..
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تختلفوا فإن من
كان قبلكم اختلفوا فهلكوا"..
ونرى القرآن الكريم كذلك يتولى التنبيه على أدب
الاختلاف؛ فعن عبد الله بن الزبير قال: "كاد الخيران أن يهلكا: أبو بكر وعمر رضي
الله عنهما؛ رفعا أصواتَهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركبُ بني
تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس، وأشار الآخر بالقعقاع بن معبد بن زرارة، فقال
أبو بكر لعمر: ما أردتَ إلا خلافي، قال عمر: ما أردتُ خلافَك، فارتفعت أصواتُهما في
ذلك، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا
تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ..} الآية [الحجرات: 2]،
قال ابن الزبير: كان عمر لا يُسمِع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية
حتى يستفهمه.
1- لم يكن الصحابة يكثرون من المسائل والتفريعات التي
تؤدي إلى الاختلاف، بل كانوا يعالجون ما يقع من النوازل في ظل هدي رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
2- إذا وقع الاختلاف -مع تحاشيه- سارعوا في رده إلى
كتاب الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وسرعان ما يرتفع الخلاف ويخضعون لأمر
الله ورسوله، فكان لدى كل منهم شعور بأن ما ذهب إليه أخوه يحتمل الصواب، وهذا
الشعور كفيل بالحفاظ على احترام كل من المختلفين لأخيه والبعد عن التعصب للرأي،
وكانوا يلتزمون بالتقوى والبعد عن الهوى، فكان لا يُهِمُّ أحدَهم أن تظهر الحقيقة
على لسانه أو لسان أخيه، وكانوا يتجنبون الألفاظ الجارحة، ويستمع كل منهم إلى
الآخر، وكانوا يبذلون جهدهم في موضوع البحث مما يعطي لرأي كل من المختلفين صفة
الجد، ومن أوضح الأمثلة على ذلك:
ما أخرجه البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال يوم الأحزاب: "لا يصلينَّ أحدٌ العصرَ إلا في بني قريظة"، فأدرك بعضهم
العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، أي ديار بني قريظة، وقال بعضهم:
بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعنف واحداً
منهم.
ففريق من الصحابة أخذ بظاهر لفظ النبي صلى الله
عليه وسلم، وفريق استنبط معنى خصص النص به، فلا لوم على من بذل جهده وكان مؤهلاً
لهذا النوع من الاجتهاد.
ولقد أورد ابن القيم اختلاف الفقهاء في تصويب أي
الفريقين، وكان على الفقهاء رحمهم الله ألا يخوضوا في أمر قد تولى عليه الصلاة
والسلام حسمه، وأن تسعهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك..
ثانياً: سمات أدب الاختلاف في
عهد الخلافة الراشدة:
كانوا يبعدون عن الاختلاف، ولا يتبعون الهوى، وحين يكون
للخلاف أسباب؛ من مثل وصول سنة في أمر لأحدهم لم تصل للآخر، أو اختلافهم في فهم نص،
أو في لفظة، كانوا وقافين عند الحدود يسارعون للاستجابة إلى الحق والاعتراف بالخطأ،
وكانوا شديدي الاحترام لأهل العلم والفضل والفقه، وكانت أخوة الإسلام بينهم أصلاً
من أصول الإسلام الهامة، وهي فوق الخلاف أو الوفاق في المسائل الاجتهادية..
ولم تكن المسائل الاعتقادية مما يجري فيه الخلاف،
فالخلافات لم تكن تتجاوز مسائل الفروع.
وكان الصحابة رضوان الله عليهم قبل خلافة عثمان رضي
الله عنه منحصرين في المدينة، وقليل منهم في مكة، لا يغادرون إلا لجهاد ونحوه، ثم
يعودون فيسهل اجتماعهم، وكان القراء والفقهاء بارزين ظاهرين، وكل له مكانته
المعروفة، كما أن لكلٍ شهرتَه في الجانب الفقهي الذي يتقنه.
وكانت نظرتهم إلى استدراكات بعضهم على بعض أنها
معونة يقدمها المستدرك منهم لأخيه وليست عيباً أو نقداً..
ومن أمثلة اختلافهم:
1- اختلافهم في وفاته عليه الصلاة
والسلام؛ فإن عمر -رضي الله عنه- جعل القول بوفاته إرجافاً من المنافقين،
وظن أنه سيبقى في أمته حتى يشهد على آخرها بآخر أعمالها.. حتى جاء أبو بكر وقرأ على
الناس قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ....} الآية [آل
عمران: 144]، فاستيقن عمر فِراقَ الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- اختلافهم في خلافة رسول
الله صلى الله عليه وسلم.. اختلفوا فيمن تكون الخلافة أفي المهاجرين أم في
الأنصار؟ أتكون لواحد أم لأكثر كما وقع الاختلاف حول الصلاحيات التي كانت لرسول
الله صلى الله عليه وسلم بصفته حاكماً وإماماً للمسلمين هل ستكون للخليفة بعده
كاملة أم ناقصة أم مختلفة.
3- اختلفوا حول قتال مانعي
الزكاة.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه: "لما توفي رسول الله –صلى الله عليه
وسلم- وكان أبو بكر رضي الله عنه، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر: فكيف تقاتل
الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا
إله إلا الله، فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها وحسابه على الله تعالى؟ فقال
أبو بكر: "والله لأقاتلنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال،
والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على
منعها، قال عمر: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه للقتال
فعرفت أنه الحق.
4- اختلافهم في بعض المسائل
الفقهية:
- كان أبو بكر يرى سبي نساء المرتدين على عكس ما يراه
عمر، لذا نقض في خلافته حكم أبي بكر.
- كان أبو بكر يرى قسمة الأراضي المفتوحة، وكان عمر يرى
وقفها ولم يقسمها.
- كان أبو بكر يرى التسوية في العطاء، وكان عمر يرى
المفاضلة.
- عمر لم يستخلف، على حين استخلفه أبو بكر.
- كان ابن مسعود يرى في قول الرجل لامرأته: "أنت عليَّ
حرام" أنه يمين، وعمر يقول: "هي طلقة واحدة"..
- كان ابن مسعود يقول في رجل زنى بامرأة ثم تزوجها: لا
يزالا زانيين ما اجتمعا، وعمر لا يرى ذلك، بل يرى أوله سفاحاً وآخره نكاحاً.
يتبع