التربية عن طريق الحوار
والإقناع
الإقناع هو: "عملية إرضاء، يقوم فيها المربِّي باستخدام الطُّرُق
المؤَثِّرة، التي تجعل نفس المتعلِّم ترضى - بكامل جوانبها - بالشيء المعتقَد،
وتقتنع به، بعيدًا عن أيِّ عامل خارجي، ويأتي الاتِّباع نتيجة لهذا
الإقناع"[1].
والتربية عن طريق حوار العقل
والإقناع من الأساليب المهمة، التي حرص عليها القرآنُ الكريم والسنَّةُ النبوية في
تربية الأمة الإسلاميَّة؛ ففي القرآن الكريم العديدُ من النصوص التي تسوق إلى البشر
أدلَّةً فِطْريَّةً
[2]؛ بهدف إقناعهم بوُجُود الخالق – سبحانه -
وقدرته على إنشاء الخلق، وإعادة بعْثه، وغير ذلك من القضايا العَقَدية
والإيمانية.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿
وَهُوَ
الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ
الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ ﴾ [الروم: 27]، ويقول تعالى في شأن مَن استنكر أمْر بعث الأجساد
والعظام، بعد أن تَبْلَى وتصير رميمًا: ﴿
وَضَرَبَ
لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ
* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [يس: 78، 79]، ويقول تعالى
لِمَن استغرب أو تعجَّب تعجُّبًا إنكاريًّا أن يكونَ المسيح - عليه السلام - وُلِدَ
بدون أب: ﴿
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ
كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾
[آل عمران: 59]؛ أي: أيها المنكرون لِولادة عيسى مِن أم دون أب،
لماذا قبلتُم خلْق آدم، وهو الذي خُلِق من غير أمٍّ ولا
أبٍ؟! فالأَوْلَى بكم أن تُنكروا خلق آدم؛ فهو أعظمُ مِن خلق عيسى
[3].
وتؤكِّد السُّنة النبوية اهتمامَ الإسلام بأُسلوب التربية
عن طريق العقل والإقناع؛ فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصًا
على تعليم أصحابه بطريق الحوار
[4]، وكان - صلى الله عليه وسلم - يُحاور في
سبيل الإقناع وإقامة الحجة؛ فعن أَبي أُمامةَ رضي الله عنه: أَنَّ فتىً من قريشٍ
أَتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلّم - فقالَ: يا رسولَ الله، ائْذَنْ لي في
الزِّنا، فأقْبلَ القومُ عليهِ وزَجَروهُ، وقالُوا: مَهْ مَهْ، فقال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -: ((ادْنُهْ))، فَدَنا مِنهُ قريبًا، وجعل النبي - عليه الصلاة
والسلام – يحاوره ويقول له: ((أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ؟))، قال الفتى: لا والله،
جعلَني الله فِدَاكَ، قال: ((ولا الناسُ يحبُّونَهُ لأمَّهاتِهِمْ))، قال:
((أَفتحِبُّه لابنتكَ؟))، قالَ: لا والله يا رسولَ الله، جعلَني الله فداكَ، قال:
((ولا الناسُ يحبُّونَهُ لِبَناتِهِمْ))، قالَ: ((أَفتحِبُّه لأخْتِكَ؟))، قال: لا
والله يا رسولَ الله، جعلَني الله فداكَ، قال: ((ولا الناسُ يحبُّونَه
لأخَواتِهم))، قال: ((أَتحبُّهُ لعمَّتِكَ؟))، قال: لا والله يا رسولَ الله، جعلني
الله فداكَ، قال: ((ولا الناسُ يحبونَهُ لعَمَّاتِهم))، قال: ((أَتحبهُ
لخالتِكَ؟))، قالَ: لا والله يا رسولَ الله، جعلني الله فداك، قالَ: ((ولا الناسُ
يحبونَهُ لخَالاتِهِمْ))، قال: فوضَعَ يدَهُ عليه وقالَ: ((اللهمَّ اغفِرْ ذَنْبهُ،
وطهِّرْ قَلبَهُ، وحَصِّنْ فرجَهُ))، قال: فلَمْ يكُنْ بَعْدَ ذلكَ الفَتى يلتفِتُ
إِلى شيءٍ"؛ رواه أحمد والطبراني وصححه الألباني.
فنجد أن النبي صلى
الله وسلم في هذا الموقف التربوي العظيم قد استخدم الحوار العقلي عن طريق قياس
معاملة الآخرين من الناس على معامَلة النفس، لأن النفس البشرية بطبيعتها تحب لذاتها
الخير وتكره لها الشر ، وعليه فيجب أن تتجب أذى الآخرين لتنجو من أذاهم
.
فما لا يحبه الإنسان لنفسه لا يحبه الآخرون
لأنفسهم أيضاً.والرسول - صلى الله عليه وسلم - يعتمد على أُسلوب
الحوار للإقناع أيضًا مع الصغار، كما يعتمد عليه مع الكبار، مع الفارق - بالطبع -
في كيفيَّة الحوار وطريقته؛ ومن ذلك ما يُروى عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه -
قال: أُيِّمَت أمي، وقدمتْ المدينة، فخطبها الناس، فقالت: لا أتزوج إلا برجل يكفل
لي هذا اليتيم، فتزوجها رجل من الأنصار، قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- يعرض غلمان الأنصار في كل عام، فيُلْحِق مَن أدرك منهم، قال: فعُرِضْتُ عامًا،
فألحق غلامًا، وردَّني، فقلت: يا رسول الله، لقد ألحقتَه ورددتني، ولو صارعتُه
لصرعته، قال: ((فصارِعْه
))، فصارعته فصرعته، فألحقني
[5].
وسار
الصحابةُ بعد ذلك على منهاج النبوة؛ فهذا عمر بن الخطاب - أمير المؤمنين -
يشكو إليه أبٌ عقوق ولده، فما كان من عمر إلا أن استدعى الابن ليفهمَ الحقيقة، فقال
عمر للابن:
ما حملك على عقوق أبيك؟ فقال: يا
أمير المؤمنين،
ما حقُّ الولد على أبيه؟ قال:
أن يحسن اسمه، وأن يحسن اختيار أمِّه، وأن يعلِّمه الكتاب، فقال: يا أمير المؤمنين،
إن أبي لم يفعل شيئًا من ذلك، فالتفت عمر للأب وقال له: لقد عققتَ ولدك قبل أن
يعقَّك.
وكان عمر يُحاور الصبيان، حتى
إنه يستشيرهم في الأُمُور المهمَّة
[6]؛ حيث كان يفعل ذلك مع ابن عباس - رضي الله
عنهما.
وهكذا عُنِي الرسول - صلى الله عليه
وسلم - وصحابتُه بأُسلوب الحوار، كأسلوب مِن أقوى أساليب الإقناع؛ وما ذاك
إلا لأنه يُعَرِّف بالأساس العقليِّ والمنطقي لأية قضية تطرَح؛ ليرقى بالمتلقِّي من
أسلوب التقليد الأعمى إلى أسلوب إعمال الفِكْر، وإيضاح الحقائق، والحرية في مناقشة
أية فكرة تَعْرِض له، حتى يجد الحلَّ الذي يتمَشَّى مع الفطرة السليمة، والعقل
الصحيح، دون أن يُفرض عليه بالقوة
[7]، أو يكون مجرد تقليد أعمى
لغيره.
وذلك لأن التقليد لا يخلق في الإنسان
تلك الحركةَ، والتفاعُل، والطاقاتِ التي توجد عند مَن يؤمن بالشيء عن طريق
العقل والاقتناع، وأوضح دليل على ذلك: ما نلمسه هذه الأيام مِن تحوُّلٍ في أداء
كثير من المسلمين للعبادات؛ حيث أصبحوا يؤدُّونها كمُجرد طقوس وعادات، أكثر من أن
تكون رُوحًا وإشْراقًا وصعودًا في معارج الترقِّي، ومواصلة التقرُّب إلى الله
تعالى
[8]؛ كما كان أداؤُها كذلك عند السَّلَف
الصالح، وما الفرْق بين السلَف والخلَف في ذلك إلا أن إيمان الأَوَّلين كان نتيجةَ
اقتناع حقيقي، أما إيمان أكثر الخلَف اليوم، فهو - للأسف - إيمان
تقليدي.
وفي ضوء ما سبق، ينبغي على
المربِّين اليوم أن يهتموا بالحوار مع أطفالهم؛ لأنَّ الحوار الهادئ ينمِّي عقل
الطفل، ويوسِّع مداركه، ويزيد من نشاطه في الكَشْف عن حقائق الأمور، ومجريات
الحوادث والأيام، وإن تدريب الطِّفل على المناقشة والحوار يقفز بالوالدَيْن إلى
قمَّة التربية والبناء؛ إذ عندها يستطيع الطفلُ أن يعبِّرَ عن حُقُوقه، وبإمكانه أن
يسأل عن مجاهيلَ لم يدْركها؛ وبالتالي تحدث الانطلاقة الفكرية له، فيغدو في مجالس
الكبار، فإذا لوجوده أثر، وإذا لآرائه الفكرية صَدًى في نفوس الكبار؛ لأنه تدرَّب
في بيته مع والديه على الحوار، وأدبه، وطرقه، وأساليبه... واكتسب خبرة الحوار من
والديه
[9].
ومما
لا شك فيه أنَّ أُسلوب الحوار من الأساليب المحبَّبة في التدريس؛ فبه تثبت
المعلومات، وترسخ المفاهيم؛ للأسباب التالية: أولاً: أن الحوار يُعطي الموضوع
حيوية؛ مما لا يدَع مجالاً للمَلَل، بل يدفع الطالبَ إلى الاهتمام والتتبُّع.
ثانيًا: أن الحوار يوقظ
العواطف والانفعالات؛ مما يساعد في تربيتها وتوجيهها نحو المَثَل الأعلى، كما يساعد
على تأصيل الفكرة في النفْس وتعْميقها.
ثالثًا: أنه عن طريق الحوار يُمكن
عرْض الحجج عرْضًا فكريًّا، يُمكن من خلاله دحْض الحجج الباطلة، وإظهار الحقيقة
ببراهينها.
رابعًا: أن
الحوار يُعطي فرصة للطالب في الأخْذ والرَّد، وإثبات الحقائق، وتجلية الشبهات، كما
يُعطيه فرصة في معرفة الحقائق، والاستفسار عنها، وإمكانية ترديدها.
وبهذه الأمور يستطيع الطالبُ أن يكتسبَ كمًّا كبيرًا من
المعلومات والمعارف، التي تساعده في الحصول على مستوى أعلى بين زملائه
[10].
وبالتربية عن طريق العقل والإقناع - أيضًا - يستطيع
المربِّي والمعلِّم أن يرسخَ في نفس الناشئ والمتعلم الإيمانَ بالله تعالى؛ وذلك
بأن يوجِّه المربِّي نظر من يُربِّيهم إلى الحقائق الكونية، ودلائل قدرة الله -
تعالى - الظاهرة في الأنفس، والمأكولات، والحيوانات... إلخ، ويُريهم ما في ذلك
كلِّه من دلالات على صناعة الصانع الحكيم؛ ليزيد إيمانهم كلما رأوا آية تدل على
وجود الله المبدع الكريم، وذلك حسب نمو مداركهم، ومستوى ثقافتهم وتعليمهم؛ وذلك
وفقًا لتوجيهات نظريَّة التربية والتعليم في الإسلام، التي تدعو إلى دراسة الحقائق
من ناحيتَيْن: دراستها من حيث هي حقائقُ، ودراستها من حيث دلالتُها على الصُّنع
والإبداع والتَّجميل
[11].
ويُمكن الاستعانة في ذلك بما تقدِّمه العلوم الحديثة منَ
اكتشافات عظيمة، تؤكِّد قدرةَ الخالق سبحانه؛ حيث كان للاكتشافات المذْهلة
في العُقُود الأخيرة من هذا القرن دورٌ بارز في تأسيس انتصارات علمية فكرية لصالح
الإيمان؛ ولذا جاءت الدعوةُ إليه على ألسنة علماء الفيزياء والكيمياء والفضاء،
الذين أخرجوا لنا الكتابين المشهورين: "
الله يتجلَّى
في عصر العلم"، و"
العلم يدعو إلى
الإيمان"؛ لكربيس موريس.
كما أنَّ علمَ
الطب قدَّمَ لنا دراساتٍ علمية، وكشوفًا مهمة، لها من القيمة الطبيَّة
والعلميَّة الأهميَّة البالغة، ثم كان لها الأَثَر البارِز على قضية الإيمان
[12].